نهر الحياة لا يتوقف عن الجريان
رواية "العمر فرصة" تتحدث عنك أنت، وإن اختلف اسمك عن اسم بطل الرواية أو كان مجالك المهني غير مجال تصميم الإعلانات الذي تميّز فيه البطل؛ فهي رواية تنموية لا تكتفي بعرض المشكلة لكنها تقدّم أيضاً بعض الحلول، تابع معنا رحلة هذا الشاب التائه بين عواصف عدم الاستقرار الفكري والعائلي وكيفية وصوله للنجاح.
الحلقة الأخيرة:
وتستمر الحياة..
أعدّ نادر تفاصيل الحملة الدعائية لشركة المحمول وقدّمه لرئيسه الذي أعجب به أشد أعجاب، وقام بوضع بعض اللمسات الاحترافية عليه ثم قدّمه للشركة، وبعد ثلاثة أسابيع من تقديم العرض جاء الرد من الشركة المستهدفة بالموافقة على الجزء الخاص بإعلانات الطرق والحملة الصحفية وتأجيل البتّ على الجزء المتعلق بالدعاية الإذاعية والتلفزيونية لحين قياس نتائج الحملة المتعاقد عليها، وكان هذا الخبر السعيد يكفي جداً ليقيم رئيس مجلس الإدارة احتفالاً داخل مقر الشركة.
أقيم الاحتفال ظهراً! كما يحدث في الاحتفالات الغربية؛ بينما تعوّدنا -نحن الشرقيون- أن تبدأ حفلاتنا قرب منتصف الليل، وحضَرَته أسرة نادر وأسرة داليا! فقد طلب نادر خطبتها، بعد أن جمعت ساعات العمل الطويلة بينهما؛ فأذابت الاختلافات، وأظهرت التوافق، وشعر كل منهما أنه وجد نصفه الآخر الذي يبحث عنه.
ووافقت الفتاة، واقترح رئيسهما أن يرتديا دِبَل الخطبة في هذه الاحتفالية، وبعد التفكير وافقا.. ولم لا؟.. ربما تكون هذه هي أول خطبة تتم داخل شركة.
وفي الحفلة ارتدى الفتى الحُلة الداكنة التي كان يتمناها، ومن تحتها رباط العنق الأنيق، وكان يتجول بين الموائد في ثقة ورشاقة يحسد عليها؛ فقد زادت ثقته بنفسه وخصوصاً بعدما أصبح أول من يفي بوعده؛ فقبل الحفلة بيوم واحد اصطحب أصدقاءه للغذاء في مطعم الأسماك الشهير.
ولم يكن غريباً أن يثير تألّقه قلق والديه عليه.. إلا أن ذلك لم يمنعهما من الفرح والفخر بابنهما الذي أصبح يملك ما يستحق عليه الحسد؛ فالنجاح يعزّز الثقة بالنفس، والثقة بالنفس تُكسب الإنسان مهابة وجمالاً..!
وفي بداية الحفل سرَت الهمسات الساخرة بين المدعوّين عن هذه الخطبة العجيبة وتندّر بعضهم على بُخل شريكيْ الفرحة، ولعن الكبار منهم جنون شباب هذه الأيام.
ووسط معمعة الحفلة شعر نادر بِيَد توضع على كتفه فالتفت ليجد الأستاذ علي يقول مبتسماً:
- أريد أن أختلي بك للحظات.
- أنا طوع أمرك.
- حسناً.. حاول أن تفرّ من المدعوين ومن عروسك التي ترصدك، والحق بي في مكتبي.
بصعوبة تملّص الشاب من المدعوّين ودلف إلى حجرة المكتب، وجلس أمام الرجل، الذي مد يده ليفتح دُرج مكتبه قائلاً:
- إنما أردت أن أعطيك هدية الخطبة.
وقدّم ورقة إليه؛ فتناولها في شيء من الحيرة والتساؤل عن ماهية هذه الهدية الورقية!
وفي سرعة جرت عيناه على أسطر الورقة ثم فتح فاه في ذهول حقيقي وهتف:
- عقد عمل لمدة خمس سنوات بمرتب رائع، ونسبة عشرين بالمائة من أرباح الحملات التي أشترك في وضع خطتها.. معقول؟!!
- اسمع يا نادر.. أنا لا أمنحك هبة؛ ولكنك صاحب عقل يبدو وكأنه لم يُخلق إلا للعمل في مجال الدعاية والإعلان.. ثم إن موهبتك البارزة سرعان ما ستصبح حديث الوسط الإعلاني، ووقتها سيتهافت أصحاب الشركات الكبرى على استقطابك، وبهذا التعاقد فأنا أمنحك حقّك، وفي نفس الوقت أضمن لنفسي موظفاً مجتهداً وفعالاً، وشريكاً أميناً ومبدعاً.
أجابه الفتى وهو في حالة فريدة من الغبطة:
- لا أعرف ماذا أقول لك.. ولكن ما أستطيع قوله هو أنني سأبذل قصارى جهدي حتى أكون عند حسن ظنك.
قام الرجل يمد يده لمصافحته؛ فصافحه في حفاوة كبيرة ولم يملك نفسه من احتضانه والدموع تنساب من عينيه.. لقد تذكّر الآن سؤاله الذي طرحه عندما قرأ والده إعلان الجريدة لأول مرة، ووجد إجابه شافية له؛ فمازال هناك من يُقدّر المواهب حق تقديرها.
ومع نهاية الحفلة تغيّرت الأفكار، وتحوّل التندر إلى إعجاب بحسن التخطيط، وهنأ المسنون العروسين على جرأتهم، وأقسم بعض شباب الحاضرين على أنه لن يتزوج إلا إذا أتيح لهم إقامة حفلة مماثلة في شركاتهم.
بعد مرور عدة سنوات من الكفاح المتواصل، أصبحت الشركة ذات مكانة مرموقة وسط مثيلاتها في مصر، واستطاعت أن تحصل على بعض الحملات الإعلانية لبعض الشركات العربية الضخمة..
كان النجاح جميلاً، وتفاصيل الكفاح أجمل..
ولم يمنع الكفاح المتواصل بعض الإخفاقات التي حدثت بين الحين والآخر؛ فهكذا تستمر الحياة، بين كفاح طويل، وعرق غزير، ونجاح جميل، لابد أن تتخلله بعض الزلّات.
وأثبت نادر وجوده أكثر، وتوطّدت علاقته بالمهندس علي؛ حتى باتت صداقتهما مضرباً للأمثال،وأصبح يرافقه في جلسات العمل مع العملاء الجدد لتحديد رغباتهم، وعرض ما يناسبهم من أفكار لترويج منتجاتهم.
وفي إحدى الزيارات لعملاء جدد، ذهب نادر بسيارته مباشرة إلى عنوان العميل الجديد على أن يلحق به المهندس علي بعد أن يمرّ على البنك ليتمم إجراءات مهمة.
ووصل الفتى الذي أصبح يجيد القيادة إلى العنوان المنشود في ذلك الحي الجديد على أطراف العاصمة، وعبر بوابة البناية الصخمة في خطوات رشيقة هادئة.
وبنظرات واثقة وقعت عيناه على حارس البناية الذي يرتدي الجلباب ويجلس مسترخياً على أريكته الخشبية.
شعر نادر أن المكان ليس غريباً عليه، وتنبّه للذكرى التي جمعته بهذا المكان من قبل؛ فابتسم وهو يقول: السلام عليـكم.
وما إن التفت إليه الحارس حتى هبّ واقفاً وهو يردّ في احترام:
- وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته، أأمرني يا باشا.
ردّ نادر وقد تواترت الذكريات أمامه وكأنه كان هنا البارحة:
الأمر لله، أريد مكتب شركة النيل للأغذية المجمدة.
أفسح الرجل له الطريق وهو يتقدمه مشيراً إلى غرفة المصعد وهو يقول:
- الدور الثاني يا باشا، أول شقة جهة اليسار، تفضّل وسوف أستدعي لك المصعد في ثوانٍ.
- إنني أفضل الصعود على السلم.
هكذا أجابه نادر ولم ينتظر رده، وصعد الدرجات وهو يحمد الله على ما وصل إليه، وعندما وصل للدور الثاني وقبل أن يدلف إلى المكتب، ألحت عليه التفاتة إلى باب المكتب الموجود على يمين السلم؛ فرآه مغلقاً، ويكسو الغبار أجزاء عديدة منه؛ حتى أنه يكاد يطمس العنوان الموجود على اللافتة التي تعلوه؛ مما ينبئ بأن هذه الشركة باتت في طي النسيان.
ولثوانٍ معدودة تسمّر نادر في مكانه، دار خلاله شريط حياته أمامه، من أمل إلى عمل ثم فشل، ونجاح، ثم أمل جديد؛ فحمد الله مرة أخرى على ما قدّره له، ودخل إلى مكتب شركة الأغذية الموجود على يساره، وهو يحاول أن يطرد من ذهنه ذكريات الماضي بحلوها ومرها، ولو مؤقتاً؛ فكي نتواصل مع نهر الحياة الجاري، لابد أن نركّز على اليوم ونتطلع للمستقبل..
فهذا النهر لا يعرف التوقف عن الجريان
ولا الانحراف في بحيرات جانبية
إنما يسير للأمام فقط
وتستمر الحياة..
وكل ما علينا أن نعدّل شراع قاربنا في نفس اتجاهه، إذا أردنا السعادة، وآثرنا الابتعاد عن الشقاء قدر الإمكان.
فلنفعل ما نستطيع..
ولا نحمل أنفسنا ما لا طاقة لنا به.
ولعلّنا نستطيع اقتناص واحدة من الفرص المتاحة لنا..
فالعمر فرصة..
0 التعليقات: