قصة رمزية عميقة

 
قصة رمزية عميقة
يظنّ الواحد منا أن مجرد إغلاق بابه عليه سيجنّبه المخاطر والضغوط
يظنّ الواحد منا أن مجرد إغلاق بابه عليه سيجنّبه المخاطر والضغوط
بعبقرية بالغة، طرح النبي الخاتم محمد -صلى الله عليه وسلم- إحدى أعمق النظريات الإنسانية وأقواها أثراً، والتي من دونها لن يهنأ المجتمع بعيش أو يسعد برخاء..

شرح رسول الله صلى الله عليه وسلم
-من خلال قصة رمزية عميقة- وصْفَة لإنقاذ أي مجتمع من الضلال والتخبّط والسلبية؛ فهو قال: "مَثَل القائم على حدود الله والواقع فيها، كمثل قومٍ استهموا على سفينة؛ فأصاب بعضهم أعلاها، وأصاب بعضهم أسفلها؛ فكان الذين في أسفلها إذا استقوا من الماء مَرُّوا على من فوقهم فآذوهم؛ فقالوا: لو أنا خَرَقْنا في نصيبنا خرقاً ولم نُؤذِ مَنْ فوقَنا؛ فإن تركوهم وما أرادوا هلكوا جميعاً، وإن أخذوا على أيديهم نَجَوْا ونَجَوْا جميعاً".

بوضوح بالغ يُخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أنه يجب على كل واحد فينا أن يهتمّ بما يدور حوله، ويضع يده في يد المُصلحين والحكماء، كي يشكلوا قوة تمكّنهم من ردّ الظالم أو الأحمق أو المفتون.

بلهجة مليئة بالخطورة والتحذير يُهيب بك الرسول صلى الله عليه وسلم ألا تكون من المعسكر السلبي، الذي لا يحرّك ساكناً في الحياة، ويرى مِن حولِه الأخطاء الكثيرة ولا يؤمن بأن له دوراً في إصلاح هذا العيب وتقويمه.

للأسف يظنّ الواحد منا أن مجرد إغلاق بابه عليه، وبُعده عن الانخراط في العمل المجتمعي، سيجنّبه المخاطر والضغوط؛ لكن هيهات ثم هيهات.

الخطر حينما يحين، يلتهم الجميع، والطوفان لا يطرق الباب، والكارثة ستأتي يقيناً ما دام لم يوقفها أحد أو يتصدى لها مُبادر.
والمُصلحون والشرفاء في كل زمان ومكان كانوا -وسيظلّون- صِمَام أمان مجتمعاتهم؛ حتى وإن لم يشعر العامة بحجم ما قدّموه لخدمة المجتمع والإنسانية.

تحكي كتب التاريخ أنه في نهاية القرن السادس قبل الميلاد، أسقطت أثينا الطغاة الذين كانوا يتحكّمون في مصيرها، وأقام شرفاؤها نظاماً ديمقراطياً حافظ على بقائها مملكة للعدل والمساواة عقوداً طويلة.

وكعادة المجتمعات المتحضّرة إنسانياً، كان هناك من يراقب مستوى التطوّر في السلوك الإنساني العام في المجتمع؛ فيقوم الحكماء بدورهم في بحث الخلل ووضع العلاج.

وكان مما أرّق عقلاء أثينا في ذلك الوقت، وجود أشخاص لا يملكون حساً مجتمعياً عالياً؛ فأهدافهم الشخصية هي الأهم، وانخراطهم في الهم العام غير موجود، واهتمامهم بأهداف الدولة ضئيل، كل منهم يضع نُصب عينيه مكسبه الشخصي فلا يرى سواه.

ووجدوا أن هذه الأنانية المفرطة من شأنها أن تضرب أركان الدولة من جذورها؛ فالانحدار الأخلاقي كان -ولا يزال- هو أخطر معاول الهدم لأية أمة.

وفكّر عقلاء أثينا كثيراً في الحل؛ فلا يمكن أن تتم محاسبة الأشخاص على دوافع داخلية، ومن الخطأ أن تتم محاكمة النوايا، مهما كانت واضحة وجليّة.

وبعد طول بحث ودراسة جاءتهم فكرة عبقرية!

وهي أن يكون هناك استفتاء سنوياً يشترك فيه جميع المواطنين؛ فيكتب كل واحد منهم على قطعة فخار اسم شخص الذي يريد نفيه لمدة عشر سنوات خارج البلاد؛ فإذا ما تجمّعت 6000 قطعة فخار تحمل نفس الاسم يتم نفيه، وإراحة البلاد والعباد منه ومن سلوكه غير المسئول.

والمدهش أن هذه الطريقة أتت بنتائج مذهلة، وسجّل التاريخ القديم أن أثينا نفت زعماء وقادة ورجالاً كباراً بهذا الأسلوب!
وسجّل أيضاً أن أثينا لم تسقط إلا بعدما عبِث مَن أرّقتهم تلك الطريقة بالقوانين، وأسقطوا ذلك العقاب العبقري من لائحة العقوبات؛ فأمن اللصوص والدهماء، وهدأ جنانهم، وشاع الفساد، وضاعت أثينا!

إن المجتمع السلبي مجتمع ميت، لا قوة فيه ولا فُتوة، يسهل التلاعب به وتهميشه، والعبث بأمنه واستقراره، هو جنّة للطغاة والجبارين، يقصده الخبثاء وعديمو الشرف؛ فيكون عقاب الله لساكني هذا المجتمع عسيراً، بأن يطلق فيهم يد هؤلاء؛ فيذيقونهم العذاب أشكالاً وألواناً.

بينما المجتمع الإيجابي هو مجتمع صحّي، يتحرك دائماً ليلفظ خبثه، يزمجر ويهيج إذا علا فيه صوت الشر، ولا يهدأ إلا إذا دحره وأعياه.

مجتمع يدرك كل فرد فيه أن الخير يعمّ الجميع، وأن الشرّ يجتاح الجموع؛ فيبدأ كل فرد بنفسه فيقوّمها، ثم يتجه إلى أخيه فيشاركه المصير؛ فيقوّم كل منهما صاحبه وينقده ويصحّح له ما بدا منه من عيب أو خلل، وبتلك الروح الإيجابية ينعم الجميع، وتدبّ القوة والحياة في المجتمع.

وفي كتب التاريخ شواهدي.. فاقرءوها!

بقعة ضوء: نتيجة اللامبالاة تجاه القضايا العامة هو أن يحكمنا رجال سيئون.

"أفلاطون"

0 التعليقات: